الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي فاعلمي حقًا أنا نحفى تارة وننتعل أخرى لأجل ذلك، أي لأجل إخفاء الخطى لا للأجل وجدان نعل مرة وفقدانها أخرى كحال أهل الخصاصة.وقد تقدم في قوله: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ} في آخر الأعراف (200).والمعنى: إذا كان ما يوعدون حاصلًا في حياتي فأنا أدعوكم أن لا تجعلوني فيهم حينئذ.واستعمال حرف الظرفية من قوله: {في القوم الظالمين} يشير إلى أنه أُمر أن يَسأل الكون في موضع غير موضع المشركين، وقد تحقق ذلك بالهجرة إلى المدينة فالظرفية هنا حقيقية، أي بينهم.والخبر الذي هو قوله: {وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون} مستعمل في إيجاد الرجاء بحصول وعيد المكذبين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا فلا حاجة إلى إعلام الرسول بقدرة الله على ذلك.وفي قوله: {أن نريك} إيماء إلى أنه في منجاة من أن يلحقه ما يوعدون به وأنه سيراه مرأى عين دون كون فيه.وقد يبدو أن هذا وعد غريب لأن المتعارف أن يكون العذاب سماويًا فإذا نجى الله منه بعض رسله مثل لوط فإنه يُبعده عن موضع العذاب ولكن كان عذاب هؤلاء غير سماوي فتحقق في مصرع صناديدهم يوم بدر بمرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف رسول الله على القليب قليب بدر وناداهم بأسمائهم واحدًا واحدًا وقال لهم {لقد وَجدنا ما وعدنا ربنا حقًا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا}.وبهذا القصد يظهر موقع حرفي التأكيد إن واللام من إصابة محزّ الإعجاز.{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)}.لما أنبأ الله رسوله عليه الصلاة والسلام بما يلمح له بأنه منجز وعيده من الذين كذبوه فعلم الرسولُ والمسلمون أن الله ضمن لهم النصر أعقب ذلك بأن أمره بأن يدفع مكذبيه بالتي هي أحسن وأن لا يضيق بتكذيبهم صدره فذلك دفع السيئة بالحسنة كما هو أدب الإسلام.وسيأتي بيانه في سورة فصلت (34) عند قوله: {ادفع بالتي هي أحسن} وقوله: {نحن أعلم بما يصفون} خبر مستعمل كناية عن كون الله يعامل أصحاب الإساءة لرسوله بما هم أحقاء به من العقاب لأن الذي هو أعلم بالأحوال يُجري عمله على مناسب تلك الأحوال بالعدل وفي هذا تطمين لنفس الرسول صلى الله عليه وسلم.وحذف مفعول {يصفون} وتقديره: بما يصفونك، أي مما يضيق به صدرك.وذلك تعهد بأنه يجازيهم على ما يعلم منهم قرُب أحد يبدو منه السوء ينطوي ضميره على بعض الخير فقد كان فيهم من يحدب على النبي في نفسه، ورب أحد هو بعكسه كما قال تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام} [البقرة: 204].و{التي هي أحسن} مراد بها الحسنة الكاملة، فاسم التفضيل للمبالغة مثل قوله: {السجن أحب إلى} [يوسف: 33].والتخلق بهذه الآية هو أن المؤمن الكامل ينبغي له أن يفوض أمر المعتدين عليه إلى الله فهو يتولى الانتصار لمن توكل عليه وأنه إن قابل السيئة بالحسنة كان انتصار الله أشفى لصدره وأرسخ في نصره، وماذا تبلغ قدرة المخلوق تجاه قدرة الخالق، وهو الذي هزم الأحزاب بلا جيوش ولا فيالق.وهكذا كان خلُق النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان لا ينتقم لنفسه وكان يدعو ربه.وذكر في المدارك في ترجمة عبد الله بن غانم: أن رجلًا يقال له ابن زرعة كان له جاه ورئاسة وكان ابن غانم حكم عليه بوجه حق ترتب عليه، فلقي ابنَ غانم في موضع خال فشتمه فأعرض عنه ابن غانم فلما كان بعد ذلك لقيه بالطريق فسلم ابن زرعة على ابن غانم فرد عليه ابن غانم ورحب به ومضى معه إلى منزله وعمل له طعامًا فلما أراد مفارقته قال لابن غانم: يا أبا عبد الرحمن اغفر لي واجعلني في حل مما كان من خطابي، فقال له ابن غانم: أما هذا فلست أفعله حتى أوقفك بين يدي الله تعالى، وأما أن ينالك مني في الدنيا مكروه أو عقوبة فلا. اهـ.
أما عمرو بن العاص وخالد بن الوليد فقد كان من أمرهما ما نعرف جميعًا.{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)}.{ادفع} [المؤمنون: 96] تدل على المدافعة يعني: أمامك خصم يهاجمك، يريد أن يؤذيك، وعليك أن تدفعه عنك، لكن دَفْع بالتي هي أحسن أي: بالطريقة أو الحال التي هي أحسن، فإنْ أخذك بالشدة فقابِلْه باللين، فهذه هي الطريقة التي تجمع الناس على دعوتك وتؤلِّفهم من حولك.كما جاء في قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].فإنْ أردتَ أن تعطفهم نحوك فادفع بالتي هي أحسن، ومن ذلك الموقف الذي حدث من رسول الله يوم الفتح، يوم أنْ مكّنه ربه من رقاب أعدائه، ووقف أمامهم يقول: «يا معشر قريش، ما تظنون أنَّي فاعل بكم؟» قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».ونلحظ أنهم كلموه بما يستميل قلبه ويعطفه نحوهم، وذكَّروه بأواصر القرابة والرحم، وحدَّثوه بما يُحنِّن قلبه، ولقّنوه ما ينتفعون هم به: أخ كريم وابن أخ كريم، ولم يقولوا مثلًا: أنت قائد منتصر تستطيع أن تفعل بنا ما تشاء.وفعلًا كان من هؤلاء ومن ذرياتهم نصراء للإسلام وأعوان لدعوة رسول الله.وقصة فضالة الذي كان يبغض رسول الله، حتى قال قبل الفتح: والله ما أحد أبغض إلىَّ من محمد، وقد زاد غيظه من رسول الله حينما رآه يدخل مكة ويُحطِّم الأصنام، فأراد أنْ يشقَّ الصفوف إليه ليقتله، وبعدها قال: «فو الله، ما وضعتُ يدي عليه حتى كان أحب خَلْق الله إلىَّ».لكن ماذا ندفع؟ ندفع السيئة. ونلحظ هنا أن ربنا- تبارك وتعالى- يدعونا أن ندفع السيئة بالتي هي أحسن، لا بالحسن؛ لأن السيئة يقابلها الحسنة، إنما ربك يريد أن يرتقي بك في هذا المجال، فيقول لك: ادفع السيئة بالأحسن.وفي موضع آخر يعطينا ثمرة هذا التصرُّف الإيماني: {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] ولو تأملتَ معنى هذه الآية لوجدتَ أن المجازاة من الله، وليست ممّنْ عاملْتَه هذه المعاملة؛ لأن الله تعالى يقول: {كَأَنَّهُ} [فصلت: 34] ولم يقل: يصبح لك وليًا حميمًا.ذلك لأنك حين تدفع بالتي هي أحسن يخجل منك صاحبك، ويندم على إساءته لك، ويحاول أنْ يُعوِّضك عنها فيما بعد، وألاَّ يعود إلى مثلها مرة أخرى، لكنه مع كل هذا لا يُسمَّى وليًا حميمًا، إنما هو ولي وحميم؛ لأنه كان سببًا في أنْ يأخذك ربك إلى جانبه، ويتولاك ويدافع عنك.لذلك لما شتم أحدهم الحسن البصري وسبَّه في أحد المجالس، وكان في وقت رُطَب البلح أرسل الحسن إليه طبقًا من الرُّطَب وقال لخادمه: اذهب به إلى فلان وقُلْ له: لم يجد سيدي أثمن من هذا يهديه إليك، وقد بلغه أنك أهديت إليه حسناتك بالأمس، وهي بلا شك أعظم من هديتي تلك.إذن: من الغباء أن نتناول الآخرين بالهَمْز واللمز والطعن والغيبة؛ فإنك بهذا الفعل كأنك أهديتَ لعدوك حسناتك، وأعطيتَ أعظم ما تملك لأبغض الناس إليك.ألاَ ترى موقف الأب حين يقسو على ولده، فيستسلم له الولد ويخضع، أو يظلمه أخوه فيتحمل ظُلْمه ولا يقابله بالمثل، ساعتها يحنو الأب على ولده، ويزداد عطفًا عليه، ويحرص على ترضيته، كذلك يعامل الحق- تبارك وتعالى- العباد فيما بينهم من معاملات- ولله المثل الأعلى. لذلك قلنا: لو علم الظالم ما أعده الله للمظلوم من الجزاء لَضنَّ عليه بالظلم؛ لأنه سيظلمه من ناحية، ويُرضيه الله من ناحية أخرى.ويقال: إنه كان عند أحد الملوك رجل يُنفِّس فيه الملك عن نفسه، فإنْ غضب استدعى هذا الرجل وراح يشتم فيه ويسبُّه أمام الناس حتى يهدأ، فإذا أراد أن ينصرف الرجل أخذه على انفراد وأعطاه كيسًا من المال، وفي أحد الأيام احتاج هذا الرجل إلى مال ليقضي أمرًا عنده، فحاول أنْ يتمحّك ليصل إلى الملك، ثم قال له: ألستَ في حاجة لأنْ تشتمني اليوم؟فمسألتنا بهذا الشكل، إذن: ما عليك إلا أنْ تدفع بالتي هي أحسن، فإنْ صادفتَ من صاحبك مودة وصفاءً، وإلا فجزاءُ الله لك أوسع، وعطاؤه أعظم، وما أجمل قول الشاعر حين عبَّر عن هذا المعنى: يعني: إن أردتَ الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم؛ فاعمل بالتي هي أحسن.ثم يقول سبحانه: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96] معناه: أنت يا محمد تأخذ بحقك من هؤلاء إذا كنا نحن لا نعرف ما يفعلونه بك، لكن الحال أننا نعرفه جيدًا ونحصيه عليهم، وقد أعددنا لهم الجزاء المناسب، فدَعْ هذه المسألة لنا ولا تشغل نفسك بها.وكأن الحق- تبارك وتعالى- يريد أن يُنزِّه ذات رسوله صلى الله عليه وسلم من انفعالات الغضب، وألاّ ينشغل حتى بمجرد الانفعال؛ لأنه حين يتعرّض لك شخص بسيئة تريد أن تجمع نفسك لترد عليه، وخصوصًا إذا كان هذا الرد مخالفًا لطبْعِك الحسن وخُلُقك الجميل، فكأنه يكلفك شيئًا فوق طاقتك.فالله تعالى يريد أن يرحم نبيه وأن يريحه: دَعْكَ منهم، وفوِّض أمرهم إلينا، فنحن أعلم بما يصفون أي: بما يكذبون في حقك. اهـ.
|